“ابنة الهند” .. ممنوع في الهند ! (2023)

Published On 30/3/201530/3/2015

قيس قاسم

أسباب منع السلطات الهندية عرض الفيلم الوثائقي “ابنة الهند” India’s Daughter غير مفهومة ولا مبررة لا لمخرجته ليسلي أودوين ولا لجمهوره كونها بُنيت على ردود أفعال لا على موقف نقدي من مضمونه، وأيضاً على هواجس ومخاوف من تطورات سياسية واجتماعية واسعة عقب خروج آلاف المتظاهرين الغاضبين احتجاجاً على كلام ورد في الشريط، لأحد المشتركين في جريمة الاغتصاب الجماعية للشابة جوتي سينغ في حافلة لنقل الركاب، يُحيل فيه سبب دوافع الاغتصاب على سلوك الفتاة المُغتصبة التي عليها “أن تسكت وألا تقاوم فعل الاغتصاب”!. هذه الجملة وبدلاً من البحث في مضامينها الأخلاقية والنفسية تعكّز عليها البرلمان الهندي في دعواه لمنع الشريط، ما يشير إلى وجود مخاوف سياسية من احتمال فتح باب النقاش واسعاً حول ظاهرة مخيفة تنتشر في جسد المجتمع الهندي حيث تُغتصب وخلال كل عشرين دقيقة امرأة هندية، كما جاء في الوثائقي الممنوع في الهند والمعروض في بقية أنحاء العالم بعد شروع الـ “بي بي سي” في بثه قبل أسابيع قليلة على قناتها الرابعة لحقتها بعد ذلك بلدان أوروبية ويُتوقع أن تكون مساحة عرضه أوسع نطاقاً مما خطط له منتجوه بسبب المنع نفسه.

تستغني البريطانية عن مراجعة تفاصيل الحادثة التي جرت عام 2012 كونها صارت معروفة، وبدلاً منها تحاول إعادة رسم الشخصيات المشتركة فيها بحيادية وبتفصيل لتعطي خلفية جيدة لكل العناصر الفاعلة فيها؛ الضحية والجلاد، مع أنها (في مقابلة لها في نهاية المقال) تعتبر نفسها وكل النساء والمجتمعات ضحايا الثقافة والتربية الذكورية التقليدية. صورة الشابة جوتي سينغ أو “ابنة الهند” حين تكتمل بمراجعة إنسانية تغدو أكثر إيلاماً من الفعل نفسه لما فيها من أبعاد تراجيدية.

“ابنة الهند” .. ممنوع في الهند ! (2)

فالفتاة المنحدرة من عائلة فقيرة كانت تتمتّع بقوة شخصية وإصرار على مساعدة أهلها وبقية فقراء بلدها حين قررت دراسة الطب وأكملته في النهاية بمساعدة والديها اللذين باعا أرضيهما من أجلها، وبذلك حَرمت نفسها من مهر زواجها المنتظر. شخصية عصامية كانت تسرق ساعات من نومها لتقضيها في العمل ليلاً في بدالة للهواتف من أجل توفير مستلزمات الحياة الدراسية التي عادة ما يعجز فقراء الهند عن توفيرها.

كانت كلها حيوية وأمل في المستقبل لكن وفي غفلة من الزمن وبإرادة مجموعة من المجرمين انتهى كل شيء وغادرت جوتي الحياة مُخلِّفة وراءها مأساة عائلية لن تنتهي، ولكنها في نفس الوقت فتحت باباً للتغيير لم تعرفه الهند من قبل.

إلى الجناة تدخل أودوين لتقابل بعضهم في السجن ثم تعود بعد ذلك إلى بيوتهم الفقيرة وإلى أحيائهم التي نشأوا فيها لتعطي صورة واقعية تساعد على فهم الظاهرة. كلامهم وثقافتهم كلها تشير إلى كراهية للذات والمجتمع واحتقار موروث يحملونه في دواخلهم للمرأة، وكان البؤس يدفعهم إلى الهروب من بيوتهم للخارج الذي يُقرِّر وحده مسار حياتهم وطبيعة سلوكهم. مقابلاتها لعوائلهم عمقت مضمون الشريط وفتحت ثغرات في بنية مهمل البحث في تفاصيلها. على مستوى آخر يبرز المحامون كوسط مُشوَّه في المعادلة، وتُسلِّط أفكارهم ومواقفهم من فعل الاغتصاب الضوء على شريحة تنتمي إلى الفئات المتعلمة في المجتمع لكنها عملياً تتوحّد مع العينات التي تدافع عنها وتتماهى معها بدرجة كبيرة على مستوى الأفكار. المشهد المرسوم لحياة المواطن الهندي في “ابنة الهند” لا يقل عتمة عن المصوَّر في فيلم “أم الهند” القديم على مستوى المظلومية الاجتماعية.

“ابنة الهند” .. ممنوع في الهند ! (3)

المخرجة ليسلي أودوين

الفقر والتمايز الطبقي وتغليب الذكورية المتجذرة في السلوكيات العائلية واحتقار المرأة كلها عوامل ستقود مغتصبي جوتي وغيرهم إلى عالم الجريمة وانتهاك الأعراض وإباحة الجسد الأنثوي كنتاج موضوعي للظروف البائسة التي يعيشون فيها. سيفرز مقتل واغتصاب “ابنة الهند” صراعاً اجتماعياً قوياً وسيدفع ملايين البشر للخروج في مظاهرات تطالب الحكومة والدولة بتحمل مسؤوليتها في وقف نزف المرأة الهندية المنتهكة، وستُجبر، رغم قمع الشرطة الذي حوّل المظاهرات إلى ساحة حرب، الحكومة على تأليف لجنة من السياسيين والمختصين لدراسة الظاهرة وإعداد تقرير عنها.

تولي صاحبة “ابنة الهند” اهتماماً بالدراسة التي خرجت باستنتاجات غاية في الأهمية تتطابق ورؤية كثر من المجتمع الهندي يربطون بين الاغتصاب كفعل همجي والظروف الاقتصادية والاجتماعية السيئة في الهند، ولا يتجاهلون الإشارة إلى الأفكار التقليدية والنظرة المحافظة للمرأة وضرورة إجراء تغييرات حقيقية لسد الثغرات التي يتسرب منها “الاغتصاب”. لا يرضى “ابنة الهند” بالوعود ويطالب عبر مراجعة أحوال طرفي المعادلة للنظر إلى الجوانب الانسانية فيها.
فبمقدار الحديث عن التسامح وأخذ الدولة لحقوق المظلوم يبقى الألم والحسرة على العزيز الضائع، ويبقى أصحابها يطالبون بمزيد من العقوبات على الجناة، بالمقابل لا يستسلم الوثائقي لفلتان فكرة “الجوع” ويطمح إلى “تضبيطها” من منظور أبعد من الركون إلى قوة دفعها السلبية ومنحها صفة الإطلاق حين يربطها بالتعليم وتغيير نظرة البشر إلى الكائن الثاني الذي يعيش معهم: المرأة.

حينها يمكن الحديث عن التغيير المرتجى في بلد تُغتصب فيه النساء على مدار الساعة وهذا ما ذكرته المخرجة البريطانية ليسلي أودوين في المقابلة التي أجراها معها التلفزيون السويدي وسألها رأيها في قرار البرلمان الهندي بمنع عرض فيلمها الذي شكل كما قالت صدمة قوية لها، وأن آخر شيء كانت تتوقعه من الحكومة الهندية هو منعه خاصة أنها اشتغلته بروح إيجابية محبة وقدمته كعرفان بالشكر للشعب الهندي الذي خرج للتضامن مع المرأة ليس في الهند فحسب، بل في كل أنحاء العالم: “عندما شاهدت المظاهرات التي خرجت للتنديد باغتصاب جوتي سينغ شعرت وأنا أجلس أمام التلفاز في لندن وبصحبة عائلتي بأن ما يجري هناك هو نوع من التضامن معي ومع حقوقي كإنسانة وامرأة ولهذا تأثرت كثيراً بالموقف، وبنفس تلك الروح التضامنية اشتغلت الفيلم وعملت بكل طاقتي من أجل إيصال أصوات المتظاهرين إلى العالم، ولهذا شعرت بقرار السلطات الهندية كصفعة قوية وُجهت لي شخصياً”.
وقلّلت ليسلي في نفس الوقت من قيمة تهديدات وزارة الداخلية الهندية لـ “بي بي سي” بعد قرارها بالمضي في عرضه في بريطانيا وبقية الدول التي أرادت شراء حقوق عرضه منها ووصفت التهديدات بأنها غير فعالة لأنهم لا يستطيعون التأثير على قرار عرضه في دولة ذات توجهات ديمقراطية، حرية التعبير والرأي فيها مصانة بقوة القانون، وبالتالي لا يمكن للهند التدخل ومنع الفيلم في تلك المجتمعات. وأكملت “قرار المنع يُعبِّر عن حالة الفساد السائدة في النظام الهندي”.

“ابنة الهند” .. ممنوع في الهند ! (4)

جانب من التظاهرات التي تأججت في الهند بعد الحادث الشهير

أما عن تجربتها أثناء وجودها في الهند لتصوير الفيلم وأكثر ما أثر فيها فتوقفت عند مقابلتها للمتهمين داخل السجن “عندما ذهبت لمقابلة سائق الباص الذي تمت فيه عملية الاغتصاب والاعتداء على جوتي وصديقها داخله، كنت أتوقع أن أواجه وحشاً أو مسخاً بشرياً لكني فوجئت بمقابلتي إنساناً عادياً ولهذا شعرت لحظتها بالخوف الشديد!”. كان كما تصفه رجلاً عادياً تعلّم قيّم المجتع وثقافته التي تنظر إلى المرأة باحتقار وتعاملها بدونية وأنها أقل قيمة من الرجل “هذه الصورة راسخة حقاً في وعيهم وهذا يفسر كلامه وتصرفاته وحقه المكتسب في أن يعاملها كما يشاء بما في ذلك اغتصابها أو تشويه وجهها وحتى قتلها!”.

وحول أسباب ذهابها إلى بيوت بعض المتهمين وتصوير المناطق الشديدة البؤس التي يعيشون فيها قالت المخرجة البريطانية “لأنهم ضحايا، أيضاً. نحن كلنا ضحايا في الحقيقة. فما حدث لجوتي يثبت بأنها ليست الضحية الوحيدة وعائلتها بل نحن معها، وما نراه من جرائم تُرتكب ضد المرأة في كل مكان يُعزِّز هذا الإحساس بقوة، ومن هنا لا ينبغي النظر بسلبية إلى ما يجري في الهند ونقول هذا شيء يحدث هناك ولا يخصنا، لأن ما يجري في الحقيقة يتعلق بسلوك أناس نحن من قام بتربيتهم وأرضعهم قيما أخلاقية تحتقر المرأة. ونحن من شجعهم على التصرف معنا بهذا الشكل ولهذا فنحن جميعاً ضحايا والأمر ليس فردياً في مطلق الأحوال ومواجهته هي مسؤولية أخلاقية قبل كل شيء”.
وعن كلام المحامين ومواقف السياسيين توقفت باندهاش: “كنت متهيئة لسماع تفسيرات تبرر الأفعال الهمجية من أشخاص لا يتمتعون بثقافة عالية أو تأهيل دراسي ولكني شعرت بالغثيان حين سمعت بعض المحامين يتحدثون أمامي بكلام يُبرّر الجريمة والسلوك الحيواني ويُحيل الذنب على الفتيات لا على المغُتصبين وتصريحات بعضهم الشديدة القسوة والعنيفة ضد النساء تكشف عن ثقافة ذكورية هيكلية تُفسر بدورها مواقف السياسيين الذين يستغلونها لمصالحهم الذاتية”.

وحول قناعتها ومقدار إيمانها بالحركات المناهضة للاغتصاب والعنف ضد المرأة الهندية من خلال تصويرها للمظاهرات، أكدت ثقتها بها وأن “المظاهرات التي خرجت وجوبهت بعنف رجال الشرطة إنما تشير إلى بداية تغيير وبروز وعي جديد يطالب بضرورة رفع صوت الاحتجاج عالياً وفي كل مكان، وفيلمي أراد نقل ذلك التغيير وتوصيل فكرة عن شمولية استغلال المرأة بحيث يصعب على المرء بعد مشاهدته له الادعاء بأن الأمر هذا يحدث من مكان آخر وليس عندنا.. هنا!”.

Top Articles
Latest Posts
Article information

Author: Ouida Strosin DO

Last Updated: 03/01/2023

Views: 5781

Rating: 4.6 / 5 (56 voted)

Reviews: 95% of readers found this page helpful

Author information

Name: Ouida Strosin DO

Birthday: 1995-04-27

Address: Suite 927 930 Kilback Radial, Candidaville, TN 87795

Phone: +8561498978366

Job: Legacy Manufacturing Specialist

Hobby: Singing, Mountain biking, Water sports, Water sports, Taxidermy, Polo, Pet

Introduction: My name is Ouida Strosin DO, I am a precious, combative, spotless, modern, spotless, beautiful, precious person who loves writing and wants to share my knowledge and understanding with you.